الدولة العثمانية في عهد السلطان محمد الفاتح:
في عهد السلطان محمد الفاتح (حكم من 1451 إلى 1481)، كثف العثمانيون جهودهم بشكل متزايد وزادت رغبتهم في القيام بغزوات جديدة من أجل الاستفادة من الضعف الأوروبي الذي نشأ في فارنا، أصبحت القسطنطينيّة هدفهم الأول.
بالنسبة للسلطان محمد الفاتح وأنصاره، فإنّ السيادة العثمانية في أوروبا لا يمكن أنّ تصل إلى أقصى حد لها أو تتشكل في إمبراطوريّة حقيقية طالما ظل مركزها الإداري والثقافي الطبيعي خارج أيديهم، عارض الوزير الأعظم وغيره من الوجهاء الأتراك الهجوم بشدة، بدعوى أنّه قد يؤدي إلى شن حملة صليبيّة جديدة ولكن في الواقع بسبب خوفهم من أنّ الاستيلاء على العاصمة البيزنطيّة قد يؤدي إلى الانتصار النهائي للدستور.
قام السلطان محمد الفاتح ببناء قلعة روملي على الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور، والتي قام من خلالها بالحصار (6 أبريل – 29 مايو 1453) وفتح القسطنطينيّة، شكل تحول تلك المدينة إلى العاصمة العثمانيّة اسطنبول مرحلة جديدة مهمة في التاريخ العثماني.
داخلياً، كان يعني نهاية السلطة والنفوذ للنبلاء الأتراك القدامى، الذين تمّ إعدام قادتهم أو نفيهم إلى الأناضول ومصادرة ممتلكاتهم الأوروبيّة، وانتصار الديشيرم وأنصارهم في اسطنبول والغرب.
خارجيًّا، جعل الفتح السلطان محمد الثاني أشهر حاكم في العالم الإسلامي، على الرغم من أنّ أراضي الخلافة القديمة لا تزال في أيدي مماليك مصر وخلفاء تيمور في إيران، علاوة على ذلك، حفز امتلاك القسطنطينيّة لدى السلطان محمد الثاني الرغبة في أنّ يضع تحت سيطرته ليس فقط العالمين الإسلامي والتركي، ولكن أيضًا إعادة إنشاء الإمبراطوريّة البيزنطيّة، وربما العالم المسيحي بأكمله.
لتحقيق هذه الأهداف، طور السلطان محمد الثاني قواعد مختلفة للقوة، محليًا، كان هدفه الأساسي هو استعادة اسطنبول، التي كان قد نجاها من الدمار أثناء الفتح، باعتبارها المركز السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة التي كانت تهيمن عليها سابقًا.
لقد عمل على إعادة إسكان المدينة ليس فقط بسكانها السابقين ولكن أيضًا مع عناصر من جميع شعوب الإمبراطوريّة التي تمّ فتحها، والتي من شأن إقامتها واختلاطها هناك أنّ توفر نموذجًا لإمبراطوريّة قويّة ومُتكاملة.
تمّ إيلاء اهتمام خاص لاستعادة الصناعة والتجارة في اسطنبول، مع تقديم امتيازات ضريبيّة كبيرة لجذب التجار والحرفيين، بينما تمّ جلب الآلاف من المسيحيين والمسلمين إلى المدينة، كان اليونانيّون والأرمن غير راغبين في قبول الحكم العثماني الإسلامي وسعوا لتأمين حملات صليبيّة أوروبيّة جديدة.
لذلك أولى السلطان محمد الثاني اهتمامًا خاصًا لجذب اليهود من وسط وغرب أوروبا، حيث كانوا يتعرضون لاضطهاد مُتزايد كان ولاء هؤلاء اليهود للعثمانيين ناتجًا عن ولاء إخوانهم في الديانة في بيزنطة، الذين دعموا وساعدوا الفتوحات العثمانيّة بعد الاضطهاد الطويل الذي تعرضوا له من قبل الكنيسة الأرثوذكسيّة اليونانيّة وأتباعها.
في ظل الحكم العثماني، سُمح للجماعات الدينيّة الرئيسية بتأسيس مجتمعاتها الذاتية الحكم، والتي تسمّى ميليتس، تحتفظ كل منها بقوانينها الدينية وتقاليدها ولغتها تحت الحماية العامة للسلطان، قاد الملل زعماء دينيون خدموا كزعماء علمانيين ودينيين وبالتالي كان لديهم اهتمام كبير في استمرار الحكم العثماني.
استخدم السلطان محمد الفاتح الجيش الفاتح لاستعادة الهيكل المادي للمدينة، تمّ ترميم المباني القديمة وإنشاء الشوارع والقنوات المائيّة والجسور وتحديث المرافق الصحيّة، وإنشاء نظام إمداد واسع لتوفير احتياجات سكان المدينة.
كما كرّس السلطان محمد الفاتح الكثير من الوقت لتوسيع نفوذه في أوروبا وآسيا من أجل إثبات مطالبته بالقيادة العالميّة، ولهذه الغاية، قضى على آخر الأمراء التابعين الذين ربما عارضوا ادعاءاته بأنّه خليفة شرعي للسلالات البيزنطيّة والسلاجقة، وأسس إدارة عثمانيّة مُباشرة في معظم المقاطعات في جميع أنحاء الإمبراطوريّة.
تمّ توسيع الحكم العثماني إلى ما هو أبعد من الأراضي الموروثة من السلطان مراد الثاني، من (1454) إلى (1463)، ركز بشكل أساسي على جنوب شرق أوروبا، وضم صربيا (1454-1455) وقهر موريا (1458-60)، في عملية القضاء على آخر المطالبين الرئيسيين بالعرش البيزنطي.
عندما رفضت البندقية تسليم موانئها المهمّة على طول ساحل بحر إيجة في موريا، افتتح السلطان محمد الثاني الحرب العثمانية البندقيّة الثانية (1463–1479)، في عام (1461) قام بضم طرابزون والمستعمرات التجاريّة الجنوة التي نجت على طول ساحل البحر الأسود في الأناضول بما في ذلك سينوب وكافا، وبدأ العملية التي أجبرت خانات تتار القرم على قبول السيادة العثمانيّة.
عام (1463) احتل البوسنة وضمها، عندما استمرت ألبانيا في الصمود، بمساعدة الإمدادات المرسلة عن طريق البحر من البندقية، أرسل السلطان محمد أعدادًا كبيرة من التركمان غير النظاميّين، الذين استقروا هناك في عملية غزو ألبانيا وشكلوا نواة المجتمع المسلم الذي بقي حتى يومنا هذا.
نظرًا لأنّ البابويّة والبندقيّة لم يتمكنوا من إثارة حملة صليبية جديدة في أوروبا، فقد قاموا بتحويل اتجاه السلطان محمد من خلال تشجيع هجمات أعدائه في الشرق، وإمارة كرمان التركمانية وسلالة تتار أك كويونلو (“الخراف الأبيض”) ، والتي كانت تحت قيادتها أوزون حسن قد حل محل أحفاد تيمور لينك في غرب إيران.
ومع ذلك، استخدم السلطان محمد بمهارة الانقسامات الأسريّة لغزو كرمان عام (1468)، وبالتالي مد الحكم العثماني المُباشر في الأناضول إلى نهر الفرات، عندما رد أوزون حسن بغزو الأناضول بدعم من العديد من الأمراء التركمان الذين جردهم السلطان محمد من ممتلكاتهم، كثفت البندقية هجماتها في موريا، وانتقلت المجر إلى صربيا، وهاجم سكاندربج البوسنة.
كان السلطان محمد قادرًا على هزيمة كل من هؤلاء الأعداء، في عام (1473) هزم أوزون حسن، الذي اعترف بالحكم العثماني في كل الأناضول وعاد إلى إيران، أدى ذلك إلى دخول العثمانيّين في صراع مع إمبراطوريّة المماليك في سوريا ومصر، التي سعت إلى التوسع في جنوب شرق الأناضول.
قام السلطان محمد بتحييد قوات المماليك، رغم أنّه لم يستطع هزيمتهم، ثمّ اتجه إلى البندقيّة، حيث بدأ عدة غارات بحريّة على طول ساحل البحر الأدرياتيكي والتي أدت في النهاية إلى سلام عام (1479)، حيث استسلمت البندقيّة قواعدها في ألبانيا وموريا ووافقت على دفع جزية سنويّة مُنتظمة مقابل استعادة امتيازاتها التجاريّة.
استخدم السلطان محمد قوته البحريّة الجديدة لمُهاجمة جزيرة رودس، وإرسال قوة كبيرة هبطت في أوترانتو في جنوب إيطاليا عام (1480)، بدا النجاح وشيكًا، لكن وفاته المُبكرة في عام (1481) أنهت هذه الجهود، ومع ذلك، وضع السلطان محمد الأسس للحكم العثماني في الأناضول وجنوب شرق أوروبا التي كانت ستبقى على مدى القرون الأربعة التالية.
بالإضافة إلى قهر إمبراطوريّة كبيرة، عمل السلطان محمد على توطيدها وتقنين المؤسسات السياسيّة والإداريّة والدينيّة والقانونيّة، التي تمّ تطويرها خلال القرن الماضي، من خلال إصدار سلسلة من القوانين العلمانية (قانون) التي تمّ تجميعها من خلال الخضوع إلى قوانين تسمى القانون العثماني.
إنّ التحويل في العديد من الحملات أدى إلى تأخير العملية إلى حد أنها لم تكتمل إلا في منتصف القرن السادس عشر، كما حقق السلطان محمد نجاحًا محدودًا فقط في بناء القواعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة لإمبراطوريّته.
واجه السلطان محمد معضلة وهي عدم تأمين أموال كافية لتمويل حملاته العسكريّة وجهاز الحكومة والمجتمع الجديد، لم توفر الأنظمة الضريبيّة الموروثة من أسلافه الموارد المطلوبة، خاصة وأنّ معظم الأراضي المُحتلة تحولت إلى عقارات (تيمار) ذهبت ضرائبها بالكامل لأصحابها مقابل الخدمات العسكريّة والإداريّة.
لذلك لجأ السلطان محمد إلى عدد من الوسائل الماليّة التي حققت أهدافها المباشرة، ولكن على حساب الصعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الخطيرة، كان يسحب بانتظام جميع العملات من التداول ويصدر عملات جديدة تحتوي على نسبة أكبر من السبائك المعدنيّة الأساسيّة.
لفرض قبول الإصدارات الجديدة، أرسل فرقًا مُسلّحة في جميع أنحاء الإمبراطوريّة العثمانيّة، مع الحق في مُصادرة جميع العملات القديمة والأكثر قيمة التي لم يتمّ استبدالها طواعية بالجديدة دون تعويض، سرعان ما تسبب انخفاض قيمة العملة في التضخم، مما أدى إلى اضطراب كبير في الصناعة والتجارة التي كان السلطان يأمل في تعزيزها.
بالإضافة إلى ذلك، في بحثه عن الإيرادات، أنشأ السلطان محمد احتكارات على إنتاج واستخدام السلع الأساسيّة، ووزعها على أعلى المزايدين، الذين دفعوا بدورهم أسعارًا باهظة وخلقوا ندرة مصطنعة لتأمين أرباحهم أخيرًا، أسّس السلطان محمد مبدأ أنّ جميع الممتلكات المدرة للدخل ملك للسلطان.
تبعًا لهذه الفكرة، صادر الكثير من الممتلكات الخاصة وأراضي المؤسسات الدينيّة، ممّا خلق استياءً ومعارضةً هائلة بين أولئك الذين فقدوا عائداتهم بما في ذلك أعضاء طبقة العلماء الدينيين، ووجهاء الأتراك، وحتى بعض رجال الدين، يهدد بتقويض كل من الدولة والسلطان، لم يتمكن محمد من الحفاظ على موقعه وسلطته ومواصلة فتوحاته إلّا من خلال لعب تلك المجموعات ضد بعضها البعض.