الاضطراب العقلي والانفعالي حول الموهبة والإبداع:
إن هذا النموذج للسلوك الذي يوصف بالشذوذ يندرج ضمن قائمة طويلة من النماذج المماثلة لسلوكات شاذة غير طبيعية، ظهرت لدى عدد من الفلاسفة والكتاب والقادة العظام وربما كان هذا النموذج وغيره من النماذج وراء الاعتقاد الراسخ بين عامة الناس وبعض الباحثين، في أن الموهوبون أو المبدعون إن لم يكن مريضواً عقلياً فهو غير طبيعي شاذ أو عرضة للمرض العقلي واضطراب السلوك.
وهناك من يعتقد بأن الموهبة مرتبطة بالعبقرية وأن العبقرية ترتبط تقليدياً بالعصاب، وحتى بالاضطراب العقلي أو أن العبقرية والأمراض العقلي صفتان لا تنفصلان أي متلازمتان، وقد تعزز هذا المفهوم ما قام به بعض الباحثين من تجميع وتصنيف قوائم بشخصيات تاريخية بارزة ممن عانوا من اضطرابات عقلية في محاولة لإثبات وجود علاقة إيجابية بين العبقرية واضطراب العقل، وذكر آخرون أن أغلب العباقرة يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية كالتشنج والصرع واختلال الأعصاب والجنون، وأضافوا أن العبقرية كثيراً ما تنشأ من المرض وهناك من أورد أمثلة حول نزعات الانتحار عند المبدعين.
فقد كان أرسطو يعتقد أن العبقرية الباهرة لا توجد دون جنون وأن هذا الجنون يترافق مع مس من الشيطان يتلبس الشخص، وأما العرب في جاهليتهم فقد آمنوا بوجود إنسان يسكنه الشياطين والجن سموه عبقر ونسبوا إليه كل من أتى بعمل خارق للعادة ووصفوه بالعبقري، وهكذا نجد أن هذا المفهوم لا يزال قائماً رغم التقدم العلمي والبحوث التجريبية في مجال العلوم الإنسانية ويقوم على معتقدات قديمة تربط بين العبقرية أو السلوك الإبداعي وبين الجنون ومس الشيطان.
ويشير الواقع إلى أن الدراسات التجريبية التي أجريت لم تبين عن وجود أي علاقة بين الموهبة و الاضطراب السلوكي أو الأمراض العقلية، حيث يوجد أمثلة كثيرة على ذلك فالدراسة التتبعية الشاملة التي أجراها (تيرمان) تظهر أن معدل الوفاة والطلاق والمرض العقلي كانت لدى عينة من الطلبة الموهوبين بدرجة أقل مما هو معروف في المجتمع.
كما أجرى (جودا) دراسة امتدت سبعة عشر عاماً على عينة تالفت من (294) شخص نابغ في الفنون والعلوم ولخص إلى أنه وجود دليل يدعم الافتراض بوجود علاقة بين القدرات العقلية المرتفعة والسلوك غير طبيعي الشاذ أو الاضطرابات العقلي، وكذلك فشل (ماكينون) في إيجاد علاقة ذات صلة بين الإبداع والمرض النفسي، وعندما أجرى دراسته على عينة من المعماريين والكتاب وغيرهم من المهنيين والمحترفين الذين كانوا من المبدعين إن مثل هذه النتائج تسفه النظرة القديمة للمتجددة القائمة على الربط بين الموهبة والاضطراب العقلي والسلوك غير الطبيعي الشاذ.
إذا كان لا بد من تفسير لهذا الاعتقاد الخاطئ فإنه يمكن القول بأن التراث الحضاري البشري على وجه العموم يحفل بنماذج كثيرة من ردود الفعل المحبطة بل القاسية أحياناً تجاه الموهوبين والمتفوقين في مختلف الحضارات، وربما كان مرد ذلك أنهم أشخاص متقدمون على أبناء جيلهم وسابقون لعصرهم أو لمجرد أنهم مختلفون عن غيرهم بصورة كبيرة تولد ميلاً اجتماعياً عاماً لمقاومة هذا الاختلاف كما يقاوم التجديد والتغيير في كل الأزمنة.
ويتصدى بعض الباحثين الاجتماعيين لتفسير هذا المفهوم غير الصحيح على أساس مبدأ التوازن، إذ يرون أن المجتمع ربما تقلقه فكرة وجود أشخاص متميزين عاطفياً وعقلياً وجسمياً وأكثر استقراراً وتكيفاً، ومن الأسهل لمعظم الناس تقبل العيش وفق مفهوم التوازن الذي يعني كسباً أو زيادة في جانب مقابل خسارة أو نقص في جانب آخر، وهكذا يمكن أن نفسر الميل للبحث عن جوانب النقص المتمثلة في الاضطراب العقلي والسلوكي لدى فئة الموهوبين والمتفوقين مقابل إنجازاتهم الباهرة.
وإذا كانت الحقيقة التي يجب التسليم بها هي أن المرض العقلي والاضطراب السلوكي يمكن أن يحدث لدى الأشخاص العاديين والموهوبين والمتفوقين على حد سواء، فإنه يجب الإشارة إلى أن معايير الحكم على السلوك غير طبيعي الشاذ تبنى على مفاهيمنا الحالية، وهناك ما يبرر الافتراض بأنها غير صالحة وغير منصفة تماماً لتفسير أشكال من السلوك الإنساني وصلت إلينا عبر الأجيال، وإن ما يُعد سلوكاً عادياً لدى المجتمع يعتبره البعض الآخر من المجتمع سلوكاً شاذاً، وحتى إذا سلمنا بوجود أفراد كثيرين من المرضى العقليين كانوا قد لعبوا أدواراً في تشكيل التاريخ الإنساني فليس هناك ما يبرر الافتراض بأنهم من فئة الموهوبين والمتفوقين.